lkhtabi
20-09-2005, 07:09 PM
مفكرة الإسلام: السؤال الأهم في مرحلة ما بعد الانتخابات الرئاسية هو هل تشهد مصر أحداثًا شبيهة لما جرى في أوكرانيا أو جورجيا احتجاجًا على نتائج الانتخابات، وهل يتحول الاحتجاج على الانتخابات إلى حالة أخرى من تطبيقات نظرية الفوضى البناءة الأمريكية التفكير والتنفيذ؟ وإذا كانت الإجابة هي أن لا شيء من ذلك سيحدث أو أنه أمر لم تنضج ظروفه بعد فماذا عن تأثير الانتخابات الرئاسية ونتائجها على الانتخابات البرلمانية التي ستجري عقب الانتخابات الرئاسية مباشرة. هل ستكون 'البرلمانية 'هي شرارة أحداث جوهرية تتغير خلالها المعادلات السياسية القائمة؟
هذا السؤال في جانبه العام يعود طرحه إلى ما بعد غزو العراق واحتلاله وإسقاط حكم الرئيس صدام حسين وإلى أحداث جورجيا وأوكرانيا. حيث من يرجع إلى التطورات السياسية في العالم العربي بعد احتلال العراق والفوضى 'البناءة' فيه – بحل كل أجهزة الدولة وتفكيك المجتمع العراقي كله - وأثر أحداث دول الاتحاد السوفيتي السابق - ولبنان - يلحظ أن الأنظار كانت تتجه إلى دول بعينها رشحت أن يأتي عليها الدور في تطبيق الخطة الأمريكية وأن أكثر دولتين توقع البعض حدوث هذه الحالة أو تلك فيها، كلا من سوريا ومصر ،حيث الأولى كانت مرشحة لنمط الفوضى البناءة الذي جرى تطبيقه في العراق بما تكاثر عن خطط لغزو عسكري أمريكي لسوريا أو عمل عسكري أمريكي إسرائيلي مشترك ،وحيث الثانية كانت تشهد تحركات من اللوبي الأمريكي – بدأها سعد الدين إبراهيم - وسط حالة من الفوران السياسي الوطني بصفة عامة، دخلت خلاله مصر إلى حالة نوعية مختلفة من النشاط السياسي بظهور حركات جماهيرية وسياسية جديدة وبضغوط من أجل تغيير نظام انتخاب رئيس الجمهورية وبظهور أنماط من العناصر المرتبطة بالمصالح الأمريكية والمحمية من قبلها.
وإذا كانت عملية غزو سوريا التي خطط ودعا لها علنًا الكثير من المسئولين الأمريكيين ،وبشكل خاص ريتشارد بيرل أو أمير الظلام في أمريكا، قد تعطلت بسبب اشتعال وضراوة المقاومة العراقية - والتي كانت أيضًا مظلة حماية ليس لسوريا وإنما لمختلف النظم العربية -فإن السؤال عن عدم نجاح حملة الفوضى البناءة في مصر ظل معلقًا حتى عاد للواجهة مرة أخرى في ضوء الأحداث التي بدأت تتلاحق منذ عملية تعديل المادة 76 من الدستور المصري وأحداث الانتخابات الرئاسية وما سبقها من مظاهرات للإخوان المسلمين في الشوارع مطالبة بالإصلاح ومن مظاهرات لحركات جماهيرية..والتي جاءت جميعها لتطرح السؤال هذه المرة بفعل أحداث داخلية لا أحداث خارجية فقط. فهل ستجري عملية جديدة من عمليات تطبيق نظرية الفوضى البناءة الأمريكية في مصر؟
من خلال المراجعة لمعسكرات المواقف السياسية في مصر التي على أساسها تجري قراءة احتمالات سير الأحداث في المرحلة الراهنة نكتشف أن ثمة معسكرين متباعدين في الصراع السياسي أو داخل القوى المؤهلة للعب دور في أي عمل تغييري في مصر سواء كان على طريقة الفوضى البناءة الأمريكية أو بطريقة ونمط مختلف يستهدف المصالح المصرية الوطنية والعربية والإسلامية.
المعسكر الأول هو معسكر النظام والمتحالفين معه في الانتخابات الرئاسية، إذ رغم التنافس الانتخابي خلال انتخابات الرئاسة فإن أطراف هذا المعسكر- كما رأينا في الحلقة السابقة - هم الأقرب إلى بعضهما البعض سياسيًا – حيث الخلافات فيما بينهم حول العلاقات مع أمريكا والكيان الصهيوني ليست واردة، والسؤال الوارد هنا بشأن هذا المعسكر هو: هل تتحول هذه القوى المشاركة في لعبة الانتخابات من خارج السلطة الحاكمة 'الوفد والغد' إلى المشاركة في حركة جماهيرية مع القوى التي رفضت المشاركة في الانتخابات أو التي منعت منها أم أن القوى المشاركة في الانتخابات الرئاسية ترى الخطر الأكبر هو من القوى غير المشاركة والرافضة والمبعدة من الانتخابات؟
أما المعسكر الثاني فهو معسكر الذين منعوا أصلاً من خوض الانتخابات – الإخوان المسلمون والحركة الإسلامية عمومًا - ومن الذين أتيحت لهم الفرصة ورفضوا المشاركة فيها لصوريتها كما هو الحال مع الحزب الناصري وحزب التجمع والحركات الجماهيرية الناشئة حديثًا. والسؤال بشأن هذه القوى هو: هل نجد أرضية مشتركة لعمل جماهيري واسع في الشارع يحدث تغييرًا تضع خلاله يدها في يد القوى التي شاركت في الانتخابات من قبل بالخروج على مواقف المعارضة. وقبل هذا وبعده، هل من الأصل ثمة إمكانية لدى كل هذه القوى مجتمعة في أن تحدث حالة تغييرية كبيرة ومؤثرة في الشارع المصري؟
نعمان يضرب المعارضة!
كان اللافت عند إعلان د. نعمان أنه سيخوض انتخابات الرئاسة ما أعلنه كل من حزبي التجمع والناصري من أن د. نعمان لم يبلغهم قبل الترشيح بقراره، وإن كانت الأمور سارت من بعد في حزب التجمع بطريقة مختلفة، حيث قام د.رفعت بزيارة د. نعمان فيما فهم منه بأن التجمع سيغير موقفه من المقاطعة بعد دخول د. نعمان، غير أن مفاجأة وقعت بعد أيام من تلك الزيارة حيث أصدر المكتب السياسي لحزب التجمع بيانًَا حدد فيه الموقف النهائي من الانتخابات بالمقاطعة ترشيحًا وتصويتًا، مؤيدًا في ذلك قرار الأمانة العامة للحزب. التجمع علل ذلك بأن قرار الحزب ليس موجهًا ضد المرشحين وإنما هو موجه ضد النظام الانتخابي.
وإذا كان ذلك هو حال التجمع فإن الحزب الناصري قد شدد بدوره على رفض الانتخابات وفق القانون الحالي. وبذلك لم يبق أمام د. نعمان إلا الإخوان والحركات الشعبية الجديدة كحركة كفاية والتجمع الوطني. والأولى كان أعلنت في اليوم التالي لإعلان الرئيس مبارك ترشيح نفسه رفضها للتمديد وتظاهرت في الشوارع، وأعلنت رفض الانتخابات ووصفها بالشكلية، ومن ثم لا يتوقع أن تقف لتساند د. نعمان. وهنا لم يبق لدعم نعمان سوى الإخوان، ولقد أدرك د. نعمان أن تحقيقه لنتائج مهمة في الانتخابات لن يتأتى إلا من خلال كسب ود الإخوان، وربما داعب خياله العودة إلى تلك التجربة التي حدثت في انتخابات عام1984 التي شهدت أول تحالف انتخابي في عهد الرئيس مبارك حينما تحالف الوفد والإخوان لخوض انتخابات مجلس الشعب. ولذلك هو وفي أول حديث انتخابي واسع رمى شباك الود إلى الإخوان وأبرز موقفًا مختلفًا مع موقف الرئيس المرشح حيث قال: إن الإخوان قوة اجتماعية نحترمها وليسوا جماعة منحلة كما يسميها النظام 'غير أن جمعه ورغم كلامه هذا وجد نفسه غير قادر على السير إلى آخر الشوط في مداعبة الإخوان، إذ هو قال إن 'الإخوان جمعية ثقافية واجتماعية، وأنهم لا يمكن أن يعلنوا حزبًا سياسيًا'. وهنا قطع المرشد العام للإخوان -مهدي عاكف - الطريق على لعبة د. نعمان وقال بوضوح في تعليقه على قرار الوفد بالمشاركة 'أن الإخوان مستمرون في قرار المقاطعة ولن يلتزموا بالتصويت إلى جانب مرشح الوفد'. وإذا كان موقف المرشد العام متسقًا مع موقف الإخوان من مقاطعة الانتخابات، وحتى إذا كان محافظة منه على ما قيل عن صفقة بين الإخوان والحزب الوطني فإن د. نعمان شدد - في محاولة منه للتقرب من الإسلاميين عمومًا - على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين.. وقال: إن 'الاعتقالات لا تخدم أي قضية.. واللي نفذ حكم زي عبود الزمر زي أحمد الريان وغيرهم اللي خلصوا المدة النهائية لعقوبتهم ليس إفراجًا شرطيًا ولا مؤقتًا..أنهى المدة ومازال في السجن'.
وهكذا أصبح د. نعمان في مأزق حقيقي في نهاية المطاف، إذ أصبح مرشحًا للوفد لا غير، وبات محرومًا من أي غطاء من أية قوة من قوى المعارضة، بما أضعف حملته قبل أن تبدأ وبما جعل إنجازه الرئيس هو إنقاذ الحزب الوطني الحاكم من مأزق إجراء انتخابات رئاسية شكلية. والأهم أنه بذلك 'انعزل ' عن فريق المعارضة الرسمي الذي كان قريبًا منه إلى ما قبل ترشيحه في الانتخابات، خاصة بعد ما شاع من أن د.نعمان إنما دخل الانتخابات في إطار صفقة بينه وبين الحكم.
وهنا يبدو الاحتمال المنطقي، أن نعمان جمعة لن يجد الطريق معبدًا أمامه للعودة للتعاون مع المعارضة ما بعد الانتخابات.
وإذا انتقلنا إلى موقف المشارك الثاني في الانتخابات، فعلى العكس من هشاشة مواقف نعمان يبدو أيمن نور أكثر يقظة لإبراز اختلافاته مع مرشح الوطني وأنشط في محاولة جذب الإخوان للتصويت لصالحه، وربما للعبور بعد الانتخابات إلى المعارضة بطريقة أيسر من نعمان جمعة. في نقطة البداية فإن نور غير متورط في لعبة المعارضة ووحدتها إلى الدرجة التي تحسب عليه فيها مواقف - كما هو حال جمعه - وكذلك هو لم يكن مترددًا في إعلان ترشيحه للرئاسة - كما هو حال جمعه - إذ أن نور ومنذ بدأ الحديث يدور حول قصة الانتخابات وهو أعلن أنه سيرشح نفسه على عكس جمعه الذي أعلن أنه لن يرشح نفسه بنسبة 99%، ثم عاد وتعلل بأن هيئات الحزب هي التي ضغطت عليه ليرشح نفسه، وكذلك فبينما ظل نعمان وحزبه في حالة من الميوعة في تحديد العلاقات مع المعارضة والحزب الوطني والولايات المتحدة، فإن نور كان واضحًا. عندما سئل جمعه حول علاقاته بالوطني وغيره قال 'أنت عارف أن الوفد مترامي الأطراف يعني عندنا ناس لهم صلات بالحكومة.. وناس لهم صلات بالسفارة الأمريكية وناس لهم صلات بالإخوان..صلات ودية ليس أكثر من هذا، يعني ليست مؤامرات أو اتفاقيات أو تربيطات 'لا' لو تربيطات يبقى لازم تمر بالحزب..الحزب يضربها على طول'. على العكس من ذلك مواقف نور واضحة فهو لا ينفي علاقته بالأمريكان وقد قابل المسئولين والمبعوثين علنًا، وكذلك فإن موقفه واضح في الهجوم على الحزب الوطني... إلخ. وفي الموقف من الإخوان فإن نور كان قاطعًا إذ قال إنه لا يتحفظ على حق الإخوان في حزب وفي صحيفة بل هو أبدى حرصه على ذلك بوضوح، حيث نشرت صحيفة الغد الناطقة بلسان حزبه، أنه لا صحة لما نشرته بعض الصحف عن تحفظ الغد على قيام حزب للإخوان وأكدت الصحيفة على لسان نور 'إنه اختلط على البعض التصريح السابق الذي لم يصدر عن الغد بل عن حزب آخر مشيرًا إلى أن الغد بين ثوابته الليبرالية أن يكون لكل مصري حقه في حزب وصحيفة دون تمييز في ظل احترام حق المواطنة وميثاق حقوق الإنسان والقبول بالآخر'. بالإضافة إلى ذلك، فإن صحيفة الحزب باتت تشن هجومًا مباشرًا على مبارك ودون مواربة.
وفي ضوء ذلك فإن نور يبدو الأقرب إلى العبور إلى المعارضة التي رفضت المشاركة في الانتخابات أو التي منعت من ناحيته على الأقل، غير أن دور نور ومواقفه تبدو مرفوضة على نحو ما من قبل معظم أطراف المعارضة الأخرى.
القوى الأخرى ..إلى أين؟
وعلى صعيد القوى الأخرى التي رفضت المشاركة أو منعت من المشاركة ترشيحًا في الانتخابات، فإن المتابعة والتقييم تظهر أنها القوى الأكثر ثقلاً في الشارع من التي شاركت، سواء كان ذلك على صعيد القوى الإسلامية أو حتى على صعيد بعض القوى الأخرى، خاصة أحزاب الناصري والتجمع والعمل، أو على صعيد الحركات الحديثة التشكل مثل حركة كفاية أو ما نشأ على غرارها من ثماني حركات أخرى، أو حركة التجمع الديموقراطي برئاسة الدكتور عزيز صدقي. إلا أن المتابعة والتقييم لهذه القوى تظهر أيضًا أن هذه القوى رغم اتخاذها موقف يكاد يكون متشابهًا مع انتخابات الرئاسة إلا أنها قوى متفرقة تحسب نتائج حركتها إلى حد ما كعامل طرح لا كعامل جمع.
وهو ما يعني بالإجمال عدة أمور:
· أولها: أن نتائج الانتخابات في حد ذاتها لا يتوفر لها من القوى، ما يمكن أن يحولها إلى حالة شبيهة بجورجيا أو أوكرانيا، حيث القوى المشاركة في الانتخابات لا تحظى بدرجة قوة جماهيرية، كما أن واقعة الانتخابات ذاتها لا تصلح أساسًا لتحرك مشترك مع القوى الأخرى التي رفضت أو منعت.
· ثانيها: أن القوى التي رفضت أو منعت من المشاركة في الانتخابات لن تكون متحمسة إلى متابعة نتائج الانتخابات من خلال ضغط في الشارع لمواجهة نتائجها، وأنها في الأغلب ستركز جهودها على الانتخابات البرلمانية.
· ثالثها: أن القوى التي منعت والتي رفضت تحمل تحفظات على بعضها البعض وتميل إلى الحركة المستقلة وأيضًا لها تحفظات على بعض من شارك في الانتخابات إلى درجة تمنع التواصل معهم في حركة في الشارع.
ماذا لو تجمعت كل القوى؟
ثمة معوقات كثيرة ومتعددة لحدوث حالة توحد حول موقف بين مختلف القوى السياسية، لكن ماذا لو حدث العكس وتحولت الأوضاع إلى نمط آخر سواء بالتداعي أو بدخول عناصر غير منظورة على الأحداث، وحدث تلاحم سياسي بين قوى المعارضة وفي الشارع، أو بالدقة ماذا لو حدث هذا التحول خلال الانتخابات البرلمانية؟ هل نشهد حالة أو نمط من أنماط تطبيق نظرية الفوضى البناءة أو هل يحدث تغيير على أسس أخرى مخالفة لأهداف الولايات المتحدة؟
واقع الحال أن ثمة معوقات شديدة أمام حدوث مثل هذه الحالة في مصر على الأقل في الوقت الراهن.
وبمزيد من التفاصيل فإن الفوضى البناءة تقوم بالأساس – كنظرية وآليات على استثمار أخطاء الحكومات وأنظمة الحكم لتحويلها إلى عمل ضد الحكومات وأنظمة الحكم ذاتها، لمنع التغيير الحقيقي الذي يفترض ويحتمل أن يحدث مستقبلاً والذي يفترض أن يأتي بنظم حكم معادية للولايات المتحدة، ومن ثم هي تقوم على أسس واقعية بالفعل كما هي تلبي فعليًا في جانبها الأول أو في الشق الأول من المعادلة، مطالب شعبية حقيقية، بإطاحة نظم ديكتاتورية أو متسلطة أو فاسدة ..إلخ. غير أنها لهذا السبب ذاته لا تقوم على أكتاف تيارات سياسية بقدر ما تعتمد على مجموعات عرقية وطائفية تعاني من الظلم الذي يلحق بالطوائف والأقليات في المجتمعات غير المؤسسية وغير النامية بشكل جيد بما يجعلها زادًا وافرًا لكل تفجير وبما يعطيها قوة وزخمًا. ومن ناحية طرق 'التخطيط والإدارة والتنفيذ، فإن مثل تلك الأعمال تجري وفق آليات وطرق لأجهزة استخبارية لا يعلم أحد توقيتها ولا خطواتها، خاصة في ظل حالات الاختراق الواسعة ومتعددة الأطراف في المجتمعات حاليًا من خلال العديد من أشكال العمل النظم والممول أمريكيًا. وهي تستفيد من أن القوى المطلوب منها مواجهة تلك الأنماط المرتبة من الفوضى المنظمة، هي جماعات مختلفة وغير متوافقة سياسيًا ولا خططيًا ومن ثم يسهل المرور فيما بينها والتحرك بحرية للمخططين والمنفذين للفوضى المنظمة في الفواصل بين الحركات السياسية ذاتها.
غير أن الفوضى البناءة تواجه مشكلات حقيقية في تنفيذها، حيث هناك مجتمعات لا يسهل اختراقها بسهولة بسبب قوة انصهارها 'كدولة أمة' عبر فترات تاريخية مديدة، أو لأن مجتمعاتها لا تعاني من تشققات طائفية أو عرقية مؤثرة، وكذلك لأن ثمة نظم حكم قد تمكنت من بناء جهاز دولة وطني وقوى قادر على مواجهة وإجهاض حالات الفوضى الأمريكية،ولأن بعض النظم قد جمعت بين النظام الديموقراطي وتجييش القوى الاجتماعية الفقيرة بما يجعلها ساهرة على حماية النظام العام ومواجهة حالات الفوضى المدبرة، وكذلك لأن ثمة مجتمعات ودول تمكنت فيها قوى سياسية من أن تصبح على درجة من القوة في بناء قواعد سياسية شعبية تضعف قدرة الولايات المتحدة على تقديم رموز شعبية مزورة تحصل على مصداقية شعبية مؤقتة، وكذلك فإن ثمة درجة متصاعدة من الوعي بتلك الخطة الأمريكية بما يمكن من مواجهتها ومقاومتها.
وإذا شئنا الدقة، وبالعودة إلى حالة القوى السياسية المصرية وإلى الوضع في مصر، فإن أخطر مشكلات الفوضى البناءة في المنطقة العربية إنما تواجهها في مصر. فإذا كانت مصر كدولة يصعب على الولايات المتحدة غزوها – كما هو الحال في العراق وقد توقفت القوات الصهيونية عند آخر حدود سيناء لإدراكها أن غزو مصر أمر مستحيل سكانيًا وعسكريًا – فإن الفوضى البناءة وفق أسلوب التفكيك الذي جرى في جورجيا أو أوكرانيا أو لبنان أو غيرها هو أسلوب يواجه مشكلات ضخمة هو الآخر – بما يدفع الولايات المتحدة بطبيعة الحال إلى ابتكار خطط خاصة في هذا الشأن – حيث مصر كانت هي الدولة الأمة المنصهرة طوائفها منذ فجر التاريخ، وحيث جهاز الدولة في مصر هو جهاز يحوي نمطًا فريدًا من التداخل مع المجتمع، وحيث جهاز الدولة – أو الحكم المركزي - كان هو الأسبق في بناء وحدة المجتمع عبر التاريخ، كما أن مصر يحوي الموروث الثقافي الشعبي فيها احترامًا وهيبة لجهاز الدولة ورغبة في الالتحاق به باعتباره يوفر نمطًا مستقرًا من الحياة الاجتماعية وكذا بسبب الدور الوطني لأجهزة الدولة في وقائع تاريخية وإن شابها بعض ما يشوب كل مؤسسة في مرحلة ما بعد رحيل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر.
ولذلك فإن نشاط الرموز الأمريكية أو المتأمركة قد وجد مواجهة من جهاز الدولة دون تعاطف من جماهير الشعب المصري، وكذلك شهدت هذه الرموز مقاطعة وإدانة واسعة من قبل تيارات سياسية واسعة في المجتمع، ومن ثم لم تتمكن تلك الرموز من إيجاد أرضية شعبية كما لم تتمكن من تجييش حركة شعبية واسعة أو من إدارة القوى السياسية تحت سيطرتها.
وإذا كانت مصر بالمقابل، تعانى من حالات إفقار اجتماعي ومن ضيق تمثيل النظام السياسي اجتماعيًا وكذا تعاني من ضيق رقعة الحريات العامة بما يوفر عوامل للاختراق، فإن القضية الرئيسة والحاسمة هي أن قوى لوبي الضغط الأمريكي، أو الجماعات التي يمكن أن تعتمد عليها الولايات المتحدة في إحداث الفوضى الشاملة، هي قوى غير قادرة وحدها على تنفيذ مهامها في مصر، في ظل وجود قوى سياسية وجماهيرية على درجة أعلى من القوة في الشارع المصري – وقد كان ذلك خلف محاولة الولايات المتحدة إجراء حوار مع الإخوان المسلمين - وكذلك بحكم عدم وجود تشققات عرقية أو طائفية، وبحكم ظروف نشأة وقوة الدولة المصرية. وأن المرشح للحدوث هو التطور التدريجي للأحداث في مصر، أكثر منه وقوع حالة انفجارية ..إلا إذا دخلت على الإحداث عوامل غير منظرة.
بقلم :طلعت رميح
هذا السؤال في جانبه العام يعود طرحه إلى ما بعد غزو العراق واحتلاله وإسقاط حكم الرئيس صدام حسين وإلى أحداث جورجيا وأوكرانيا. حيث من يرجع إلى التطورات السياسية في العالم العربي بعد احتلال العراق والفوضى 'البناءة' فيه – بحل كل أجهزة الدولة وتفكيك المجتمع العراقي كله - وأثر أحداث دول الاتحاد السوفيتي السابق - ولبنان - يلحظ أن الأنظار كانت تتجه إلى دول بعينها رشحت أن يأتي عليها الدور في تطبيق الخطة الأمريكية وأن أكثر دولتين توقع البعض حدوث هذه الحالة أو تلك فيها، كلا من سوريا ومصر ،حيث الأولى كانت مرشحة لنمط الفوضى البناءة الذي جرى تطبيقه في العراق بما تكاثر عن خطط لغزو عسكري أمريكي لسوريا أو عمل عسكري أمريكي إسرائيلي مشترك ،وحيث الثانية كانت تشهد تحركات من اللوبي الأمريكي – بدأها سعد الدين إبراهيم - وسط حالة من الفوران السياسي الوطني بصفة عامة، دخلت خلاله مصر إلى حالة نوعية مختلفة من النشاط السياسي بظهور حركات جماهيرية وسياسية جديدة وبضغوط من أجل تغيير نظام انتخاب رئيس الجمهورية وبظهور أنماط من العناصر المرتبطة بالمصالح الأمريكية والمحمية من قبلها.
وإذا كانت عملية غزو سوريا التي خطط ودعا لها علنًا الكثير من المسئولين الأمريكيين ،وبشكل خاص ريتشارد بيرل أو أمير الظلام في أمريكا، قد تعطلت بسبب اشتعال وضراوة المقاومة العراقية - والتي كانت أيضًا مظلة حماية ليس لسوريا وإنما لمختلف النظم العربية -فإن السؤال عن عدم نجاح حملة الفوضى البناءة في مصر ظل معلقًا حتى عاد للواجهة مرة أخرى في ضوء الأحداث التي بدأت تتلاحق منذ عملية تعديل المادة 76 من الدستور المصري وأحداث الانتخابات الرئاسية وما سبقها من مظاهرات للإخوان المسلمين في الشوارع مطالبة بالإصلاح ومن مظاهرات لحركات جماهيرية..والتي جاءت جميعها لتطرح السؤال هذه المرة بفعل أحداث داخلية لا أحداث خارجية فقط. فهل ستجري عملية جديدة من عمليات تطبيق نظرية الفوضى البناءة الأمريكية في مصر؟
من خلال المراجعة لمعسكرات المواقف السياسية في مصر التي على أساسها تجري قراءة احتمالات سير الأحداث في المرحلة الراهنة نكتشف أن ثمة معسكرين متباعدين في الصراع السياسي أو داخل القوى المؤهلة للعب دور في أي عمل تغييري في مصر سواء كان على طريقة الفوضى البناءة الأمريكية أو بطريقة ونمط مختلف يستهدف المصالح المصرية الوطنية والعربية والإسلامية.
المعسكر الأول هو معسكر النظام والمتحالفين معه في الانتخابات الرئاسية، إذ رغم التنافس الانتخابي خلال انتخابات الرئاسة فإن أطراف هذا المعسكر- كما رأينا في الحلقة السابقة - هم الأقرب إلى بعضهما البعض سياسيًا – حيث الخلافات فيما بينهم حول العلاقات مع أمريكا والكيان الصهيوني ليست واردة، والسؤال الوارد هنا بشأن هذا المعسكر هو: هل تتحول هذه القوى المشاركة في لعبة الانتخابات من خارج السلطة الحاكمة 'الوفد والغد' إلى المشاركة في حركة جماهيرية مع القوى التي رفضت المشاركة في الانتخابات أو التي منعت منها أم أن القوى المشاركة في الانتخابات الرئاسية ترى الخطر الأكبر هو من القوى غير المشاركة والرافضة والمبعدة من الانتخابات؟
أما المعسكر الثاني فهو معسكر الذين منعوا أصلاً من خوض الانتخابات – الإخوان المسلمون والحركة الإسلامية عمومًا - ومن الذين أتيحت لهم الفرصة ورفضوا المشاركة فيها لصوريتها كما هو الحال مع الحزب الناصري وحزب التجمع والحركات الجماهيرية الناشئة حديثًا. والسؤال بشأن هذه القوى هو: هل نجد أرضية مشتركة لعمل جماهيري واسع في الشارع يحدث تغييرًا تضع خلاله يدها في يد القوى التي شاركت في الانتخابات من قبل بالخروج على مواقف المعارضة. وقبل هذا وبعده، هل من الأصل ثمة إمكانية لدى كل هذه القوى مجتمعة في أن تحدث حالة تغييرية كبيرة ومؤثرة في الشارع المصري؟
نعمان يضرب المعارضة!
كان اللافت عند إعلان د. نعمان أنه سيخوض انتخابات الرئاسة ما أعلنه كل من حزبي التجمع والناصري من أن د. نعمان لم يبلغهم قبل الترشيح بقراره، وإن كانت الأمور سارت من بعد في حزب التجمع بطريقة مختلفة، حيث قام د.رفعت بزيارة د. نعمان فيما فهم منه بأن التجمع سيغير موقفه من المقاطعة بعد دخول د. نعمان، غير أن مفاجأة وقعت بعد أيام من تلك الزيارة حيث أصدر المكتب السياسي لحزب التجمع بيانًَا حدد فيه الموقف النهائي من الانتخابات بالمقاطعة ترشيحًا وتصويتًا، مؤيدًا في ذلك قرار الأمانة العامة للحزب. التجمع علل ذلك بأن قرار الحزب ليس موجهًا ضد المرشحين وإنما هو موجه ضد النظام الانتخابي.
وإذا كان ذلك هو حال التجمع فإن الحزب الناصري قد شدد بدوره على رفض الانتخابات وفق القانون الحالي. وبذلك لم يبق أمام د. نعمان إلا الإخوان والحركات الشعبية الجديدة كحركة كفاية والتجمع الوطني. والأولى كان أعلنت في اليوم التالي لإعلان الرئيس مبارك ترشيح نفسه رفضها للتمديد وتظاهرت في الشوارع، وأعلنت رفض الانتخابات ووصفها بالشكلية، ومن ثم لا يتوقع أن تقف لتساند د. نعمان. وهنا لم يبق لدعم نعمان سوى الإخوان، ولقد أدرك د. نعمان أن تحقيقه لنتائج مهمة في الانتخابات لن يتأتى إلا من خلال كسب ود الإخوان، وربما داعب خياله العودة إلى تلك التجربة التي حدثت في انتخابات عام1984 التي شهدت أول تحالف انتخابي في عهد الرئيس مبارك حينما تحالف الوفد والإخوان لخوض انتخابات مجلس الشعب. ولذلك هو وفي أول حديث انتخابي واسع رمى شباك الود إلى الإخوان وأبرز موقفًا مختلفًا مع موقف الرئيس المرشح حيث قال: إن الإخوان قوة اجتماعية نحترمها وليسوا جماعة منحلة كما يسميها النظام 'غير أن جمعه ورغم كلامه هذا وجد نفسه غير قادر على السير إلى آخر الشوط في مداعبة الإخوان، إذ هو قال إن 'الإخوان جمعية ثقافية واجتماعية، وأنهم لا يمكن أن يعلنوا حزبًا سياسيًا'. وهنا قطع المرشد العام للإخوان -مهدي عاكف - الطريق على لعبة د. نعمان وقال بوضوح في تعليقه على قرار الوفد بالمشاركة 'أن الإخوان مستمرون في قرار المقاطعة ولن يلتزموا بالتصويت إلى جانب مرشح الوفد'. وإذا كان موقف المرشد العام متسقًا مع موقف الإخوان من مقاطعة الانتخابات، وحتى إذا كان محافظة منه على ما قيل عن صفقة بين الإخوان والحزب الوطني فإن د. نعمان شدد - في محاولة منه للتقرب من الإسلاميين عمومًا - على ضرورة الإفراج عن جميع المعتقلين.. وقال: إن 'الاعتقالات لا تخدم أي قضية.. واللي نفذ حكم زي عبود الزمر زي أحمد الريان وغيرهم اللي خلصوا المدة النهائية لعقوبتهم ليس إفراجًا شرطيًا ولا مؤقتًا..أنهى المدة ومازال في السجن'.
وهكذا أصبح د. نعمان في مأزق حقيقي في نهاية المطاف، إذ أصبح مرشحًا للوفد لا غير، وبات محرومًا من أي غطاء من أية قوة من قوى المعارضة، بما أضعف حملته قبل أن تبدأ وبما جعل إنجازه الرئيس هو إنقاذ الحزب الوطني الحاكم من مأزق إجراء انتخابات رئاسية شكلية. والأهم أنه بذلك 'انعزل ' عن فريق المعارضة الرسمي الذي كان قريبًا منه إلى ما قبل ترشيحه في الانتخابات، خاصة بعد ما شاع من أن د.نعمان إنما دخل الانتخابات في إطار صفقة بينه وبين الحكم.
وهنا يبدو الاحتمال المنطقي، أن نعمان جمعة لن يجد الطريق معبدًا أمامه للعودة للتعاون مع المعارضة ما بعد الانتخابات.
وإذا انتقلنا إلى موقف المشارك الثاني في الانتخابات، فعلى العكس من هشاشة مواقف نعمان يبدو أيمن نور أكثر يقظة لإبراز اختلافاته مع مرشح الوطني وأنشط في محاولة جذب الإخوان للتصويت لصالحه، وربما للعبور بعد الانتخابات إلى المعارضة بطريقة أيسر من نعمان جمعة. في نقطة البداية فإن نور غير متورط في لعبة المعارضة ووحدتها إلى الدرجة التي تحسب عليه فيها مواقف - كما هو حال جمعه - وكذلك هو لم يكن مترددًا في إعلان ترشيحه للرئاسة - كما هو حال جمعه - إذ أن نور ومنذ بدأ الحديث يدور حول قصة الانتخابات وهو أعلن أنه سيرشح نفسه على عكس جمعه الذي أعلن أنه لن يرشح نفسه بنسبة 99%، ثم عاد وتعلل بأن هيئات الحزب هي التي ضغطت عليه ليرشح نفسه، وكذلك فبينما ظل نعمان وحزبه في حالة من الميوعة في تحديد العلاقات مع المعارضة والحزب الوطني والولايات المتحدة، فإن نور كان واضحًا. عندما سئل جمعه حول علاقاته بالوطني وغيره قال 'أنت عارف أن الوفد مترامي الأطراف يعني عندنا ناس لهم صلات بالحكومة.. وناس لهم صلات بالسفارة الأمريكية وناس لهم صلات بالإخوان..صلات ودية ليس أكثر من هذا، يعني ليست مؤامرات أو اتفاقيات أو تربيطات 'لا' لو تربيطات يبقى لازم تمر بالحزب..الحزب يضربها على طول'. على العكس من ذلك مواقف نور واضحة فهو لا ينفي علاقته بالأمريكان وقد قابل المسئولين والمبعوثين علنًا، وكذلك فإن موقفه واضح في الهجوم على الحزب الوطني... إلخ. وفي الموقف من الإخوان فإن نور كان قاطعًا إذ قال إنه لا يتحفظ على حق الإخوان في حزب وفي صحيفة بل هو أبدى حرصه على ذلك بوضوح، حيث نشرت صحيفة الغد الناطقة بلسان حزبه، أنه لا صحة لما نشرته بعض الصحف عن تحفظ الغد على قيام حزب للإخوان وأكدت الصحيفة على لسان نور 'إنه اختلط على البعض التصريح السابق الذي لم يصدر عن الغد بل عن حزب آخر مشيرًا إلى أن الغد بين ثوابته الليبرالية أن يكون لكل مصري حقه في حزب وصحيفة دون تمييز في ظل احترام حق المواطنة وميثاق حقوق الإنسان والقبول بالآخر'. بالإضافة إلى ذلك، فإن صحيفة الحزب باتت تشن هجومًا مباشرًا على مبارك ودون مواربة.
وفي ضوء ذلك فإن نور يبدو الأقرب إلى العبور إلى المعارضة التي رفضت المشاركة في الانتخابات أو التي منعت من ناحيته على الأقل، غير أن دور نور ومواقفه تبدو مرفوضة على نحو ما من قبل معظم أطراف المعارضة الأخرى.
القوى الأخرى ..إلى أين؟
وعلى صعيد القوى الأخرى التي رفضت المشاركة أو منعت من المشاركة ترشيحًا في الانتخابات، فإن المتابعة والتقييم تظهر أنها القوى الأكثر ثقلاً في الشارع من التي شاركت، سواء كان ذلك على صعيد القوى الإسلامية أو حتى على صعيد بعض القوى الأخرى، خاصة أحزاب الناصري والتجمع والعمل، أو على صعيد الحركات الحديثة التشكل مثل حركة كفاية أو ما نشأ على غرارها من ثماني حركات أخرى، أو حركة التجمع الديموقراطي برئاسة الدكتور عزيز صدقي. إلا أن المتابعة والتقييم لهذه القوى تظهر أيضًا أن هذه القوى رغم اتخاذها موقف يكاد يكون متشابهًا مع انتخابات الرئاسة إلا أنها قوى متفرقة تحسب نتائج حركتها إلى حد ما كعامل طرح لا كعامل جمع.
وهو ما يعني بالإجمال عدة أمور:
· أولها: أن نتائج الانتخابات في حد ذاتها لا يتوفر لها من القوى، ما يمكن أن يحولها إلى حالة شبيهة بجورجيا أو أوكرانيا، حيث القوى المشاركة في الانتخابات لا تحظى بدرجة قوة جماهيرية، كما أن واقعة الانتخابات ذاتها لا تصلح أساسًا لتحرك مشترك مع القوى الأخرى التي رفضت أو منعت.
· ثانيها: أن القوى التي رفضت أو منعت من المشاركة في الانتخابات لن تكون متحمسة إلى متابعة نتائج الانتخابات من خلال ضغط في الشارع لمواجهة نتائجها، وأنها في الأغلب ستركز جهودها على الانتخابات البرلمانية.
· ثالثها: أن القوى التي منعت والتي رفضت تحمل تحفظات على بعضها البعض وتميل إلى الحركة المستقلة وأيضًا لها تحفظات على بعض من شارك في الانتخابات إلى درجة تمنع التواصل معهم في حركة في الشارع.
ماذا لو تجمعت كل القوى؟
ثمة معوقات كثيرة ومتعددة لحدوث حالة توحد حول موقف بين مختلف القوى السياسية، لكن ماذا لو حدث العكس وتحولت الأوضاع إلى نمط آخر سواء بالتداعي أو بدخول عناصر غير منظورة على الأحداث، وحدث تلاحم سياسي بين قوى المعارضة وفي الشارع، أو بالدقة ماذا لو حدث هذا التحول خلال الانتخابات البرلمانية؟ هل نشهد حالة أو نمط من أنماط تطبيق نظرية الفوضى البناءة أو هل يحدث تغيير على أسس أخرى مخالفة لأهداف الولايات المتحدة؟
واقع الحال أن ثمة معوقات شديدة أمام حدوث مثل هذه الحالة في مصر على الأقل في الوقت الراهن.
وبمزيد من التفاصيل فإن الفوضى البناءة تقوم بالأساس – كنظرية وآليات على استثمار أخطاء الحكومات وأنظمة الحكم لتحويلها إلى عمل ضد الحكومات وأنظمة الحكم ذاتها، لمنع التغيير الحقيقي الذي يفترض ويحتمل أن يحدث مستقبلاً والذي يفترض أن يأتي بنظم حكم معادية للولايات المتحدة، ومن ثم هي تقوم على أسس واقعية بالفعل كما هي تلبي فعليًا في جانبها الأول أو في الشق الأول من المعادلة، مطالب شعبية حقيقية، بإطاحة نظم ديكتاتورية أو متسلطة أو فاسدة ..إلخ. غير أنها لهذا السبب ذاته لا تقوم على أكتاف تيارات سياسية بقدر ما تعتمد على مجموعات عرقية وطائفية تعاني من الظلم الذي يلحق بالطوائف والأقليات في المجتمعات غير المؤسسية وغير النامية بشكل جيد بما يجعلها زادًا وافرًا لكل تفجير وبما يعطيها قوة وزخمًا. ومن ناحية طرق 'التخطيط والإدارة والتنفيذ، فإن مثل تلك الأعمال تجري وفق آليات وطرق لأجهزة استخبارية لا يعلم أحد توقيتها ولا خطواتها، خاصة في ظل حالات الاختراق الواسعة ومتعددة الأطراف في المجتمعات حاليًا من خلال العديد من أشكال العمل النظم والممول أمريكيًا. وهي تستفيد من أن القوى المطلوب منها مواجهة تلك الأنماط المرتبة من الفوضى المنظمة، هي جماعات مختلفة وغير متوافقة سياسيًا ولا خططيًا ومن ثم يسهل المرور فيما بينها والتحرك بحرية للمخططين والمنفذين للفوضى المنظمة في الفواصل بين الحركات السياسية ذاتها.
غير أن الفوضى البناءة تواجه مشكلات حقيقية في تنفيذها، حيث هناك مجتمعات لا يسهل اختراقها بسهولة بسبب قوة انصهارها 'كدولة أمة' عبر فترات تاريخية مديدة، أو لأن مجتمعاتها لا تعاني من تشققات طائفية أو عرقية مؤثرة، وكذلك لأن ثمة نظم حكم قد تمكنت من بناء جهاز دولة وطني وقوى قادر على مواجهة وإجهاض حالات الفوضى الأمريكية،ولأن بعض النظم قد جمعت بين النظام الديموقراطي وتجييش القوى الاجتماعية الفقيرة بما يجعلها ساهرة على حماية النظام العام ومواجهة حالات الفوضى المدبرة، وكذلك لأن ثمة مجتمعات ودول تمكنت فيها قوى سياسية من أن تصبح على درجة من القوة في بناء قواعد سياسية شعبية تضعف قدرة الولايات المتحدة على تقديم رموز شعبية مزورة تحصل على مصداقية شعبية مؤقتة، وكذلك فإن ثمة درجة متصاعدة من الوعي بتلك الخطة الأمريكية بما يمكن من مواجهتها ومقاومتها.
وإذا شئنا الدقة، وبالعودة إلى حالة القوى السياسية المصرية وإلى الوضع في مصر، فإن أخطر مشكلات الفوضى البناءة في المنطقة العربية إنما تواجهها في مصر. فإذا كانت مصر كدولة يصعب على الولايات المتحدة غزوها – كما هو الحال في العراق وقد توقفت القوات الصهيونية عند آخر حدود سيناء لإدراكها أن غزو مصر أمر مستحيل سكانيًا وعسكريًا – فإن الفوضى البناءة وفق أسلوب التفكيك الذي جرى في جورجيا أو أوكرانيا أو لبنان أو غيرها هو أسلوب يواجه مشكلات ضخمة هو الآخر – بما يدفع الولايات المتحدة بطبيعة الحال إلى ابتكار خطط خاصة في هذا الشأن – حيث مصر كانت هي الدولة الأمة المنصهرة طوائفها منذ فجر التاريخ، وحيث جهاز الدولة في مصر هو جهاز يحوي نمطًا فريدًا من التداخل مع المجتمع، وحيث جهاز الدولة – أو الحكم المركزي - كان هو الأسبق في بناء وحدة المجتمع عبر التاريخ، كما أن مصر يحوي الموروث الثقافي الشعبي فيها احترامًا وهيبة لجهاز الدولة ورغبة في الالتحاق به باعتباره يوفر نمطًا مستقرًا من الحياة الاجتماعية وكذا بسبب الدور الوطني لأجهزة الدولة في وقائع تاريخية وإن شابها بعض ما يشوب كل مؤسسة في مرحلة ما بعد رحيل الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر.
ولذلك فإن نشاط الرموز الأمريكية أو المتأمركة قد وجد مواجهة من جهاز الدولة دون تعاطف من جماهير الشعب المصري، وكذلك شهدت هذه الرموز مقاطعة وإدانة واسعة من قبل تيارات سياسية واسعة في المجتمع، ومن ثم لم تتمكن تلك الرموز من إيجاد أرضية شعبية كما لم تتمكن من تجييش حركة شعبية واسعة أو من إدارة القوى السياسية تحت سيطرتها.
وإذا كانت مصر بالمقابل، تعانى من حالات إفقار اجتماعي ومن ضيق تمثيل النظام السياسي اجتماعيًا وكذا تعاني من ضيق رقعة الحريات العامة بما يوفر عوامل للاختراق، فإن القضية الرئيسة والحاسمة هي أن قوى لوبي الضغط الأمريكي، أو الجماعات التي يمكن أن تعتمد عليها الولايات المتحدة في إحداث الفوضى الشاملة، هي قوى غير قادرة وحدها على تنفيذ مهامها في مصر، في ظل وجود قوى سياسية وجماهيرية على درجة أعلى من القوة في الشارع المصري – وقد كان ذلك خلف محاولة الولايات المتحدة إجراء حوار مع الإخوان المسلمين - وكذلك بحكم عدم وجود تشققات عرقية أو طائفية، وبحكم ظروف نشأة وقوة الدولة المصرية. وأن المرشح للحدوث هو التطور التدريجي للأحداث في مصر، أكثر منه وقوع حالة انفجارية ..إلا إذا دخلت على الإحداث عوامل غير منظرة.
بقلم :طلعت رميح