مشاهدة النسخة كاملة : لقد جمع الأحزاب حولي وألبو
المهند
18-09-2005, 10:31 AM
شهدت أيام النبوة أبطالاً خلد التاريخ بطولتهم وشجاعتهم وثباتهم على عقيدتهم مهما كلفهم ذلك من الثمن، ولو كان الثمن إزهاق أرواحهم الطاهرة ..
خبيب .. أحد الذين بعثهم النبي عليه الصلاة والسلام إلى بعض القبائل التي تسكن بين مكة والمدينة، وهي قبيلة عضل وما جاورها من القبائل فبينما هو في طريقه اعتقل ثم حمل إلى مكة، وباعه المجرمون لبني الحارث بن عامر بن نوفل، ليقتلوه بحارث بن عامر الذي قتله خبيب يوم بدر، وفي اليوم المحدد لقتله خرجوا به من الحرم إلى التنعيم ليقتلوه في الحل بعد أن يصلبوه، فاستأذن منهم ليصلي ركعتين، يناجي فيهما ربه، وهو ساجد فأذنوا له، فصلى ركعتين حسنتين، فلما فرغ أقبل عليهم فقال: أما والله لولا أن تظنوا أنني لجزع من الموت لاستكثرت، أو أطلت فرفع خبيب على الخشبة فقيل ارجع عن الإسلام نخلِ سبيلك، فقال: لا والله، ما أحب أن أرجع عن الإسلام، وأن لي ما في الدنيا جميعاً ..
فأخذوا يمزقون جلده أشلاء برماحهم وهو يترنم بأبياته المشهورة التي منها:
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا *** قبائلهم واستجمعوا كل مُجمعِ
وكلهم مبدٍ للعداوة جاهد *** عليّ لأني في وصال بمضبعِ
وقد جمعوا أبناءهم ونساءهم *** وقربت من جذع طويل ممنعِ
إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي *** وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فيارب صبرني على ما يراد بي *** فقد بضعوا الحمى وقد يأس مطمعي
وقد خيروني الكفر والموت دونه *** وقد هملت عيناني من غير مجزعِ
وما بي حذار الموت إني لميت *** ولكن حذاري جسم، ار ملفعِ
ولست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزعِ
ولست بمبدٍ للعدو تخشعاً *** ولا جزعاً إني إلى الله مرجعي
.
المهند
18-09-2005, 11:24 AM
سعيد بن عامر الجمحي رضي الله عنه.. وحده - من بين الذين خرجوا إلى التنعيم - الذي نقل لنا دعاء خبيب بن عدي رضي الله عنه على الذين حضروا ليشهدوا مصرعه فلم يخلّصوه، أو ينصروه، أو حتى يحزنوا عليه!! وهم يرون قريشاً وقد بضّعت لحمه، وحملوه على جذعة.
أسلم سعيد بن عامر رضي الله عنه وحسن إسلامه وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلامه جميع المشاهد والغزوات.. وتغيرت أمور كثيرة في حياته، وتبدلت أخرى.. وغابت صور متعددة عن ذاكرته..
ولكن دعوة خبيب لم تغب يوماً عن سمعه.. ولا جسده المقطع عن بصره.. ولا ذلك اليوم عن كل مشاعره، وأحاسيسه، وذكرياته.. فكانت تصيبه غشية لا تتركه حتى عرف بها.
فلما جاء أهل حمص ليشكوه لعمر رضي الله عنه حيث كان والياً عليهم، كان من بنود الشكوى التي بُرِّء منها؛ "أن الغشية تأخذه بين الحين والحين"!!
فسأله عمر عن ذلك، فقال:
(لقد شهدت مصرع خبيب الأنصاري بمكة، وقد بضّعت قريش لحمه، وحملوه على جذعة، وهم يقولون له: أتحب أن محمدا مكانك، وأنت سليم معافى؟ فيجيبهم قائلا: "والله ما أحب أني في أهلي وولدي، معي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة"!! فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته - وأنا يومئذ من المشركين - وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لايغفر لي، وأصابتني تلك الغشية).
* * *
ما أشبه الليلة بالبارحة؟!
فها هي قريش الجديدة - المتأمركة المتصهينة المتغربة - تقف بكل صلف وعنجهية وتغطرس وتجبر وتكبر موقف قريش القديمة..
وهاهم المجاهدون في فلسطين، وأفغانستان، والشيشان...
هاهم المستضعفون في العراق..
هاهم المطاردون.. والغرباء.. والمأسورون..
هاهم الأرامل والثكالى.. هاهم البائسون والحيارى..
يقفون جميعاً اليوم موقف خبيب رضي الله عنه مصلوبين على جذوع الدساتير الوضعية، وأسنة القوانين الدولية!! ومقطّعين بسكاكين المآمرات الجائرة!! ويلاقون ما لاقاه رضي الله عنه .. من تمزيقٍ لدينهم، وفتنةٍ في عقيدتهم، وبطشٍ وتنكيلٍ يصب على أجسادهم، وتقطيعٍ لأواصرهم، وتفريقٍ بينهم وبين آبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وأزواجهم.
أهلكتَ نفسكَ يا ظلوم ** بما ادخرتَ من المظالمْ
أظننتَ أن المالَ لا ** يفنى، وأن الملكَ دائمْ
هيهاتَ، أنتَ وما جمعتَ ** كلاكُما أحلامُ نائمْ
تفنى، ويفنى، والذي ** يبقى الخطايا والمآثمْ
وفي المقابل..
يقف جمهور عريض، وصف طويل من المتفرجين!! ينظرون إلى هذا المشهدد المتكرر كل يوم!! ويلحظون هذا التنكيل المنصب في كل حين!! ويتبسمون من صورة الضحية المعلقة على رؤوس الأشهاد!!
يقفون هذا الموقف وهم يفهمون أن سبب ذلك كله هو الظلم والطغيان والفساد في الأرض، وتغييب منهج الله عن واقع الناس وحياتهم!! ويعلمون أن هؤلاء – المضطهدين - إنما يقدمون أرواحهم ويرخصون دماءهم لتحقيق العزة والكرامة لأمتهم والانتصار لعقيدتهم.. والتمكين لدينهم.
وهم أيضاً يعرفون الجلاد جيداً.. يعرفون اسمه ورسمه وجنسه ولونه وعقيدته، ويسمعون بوضوح كل "خبيب" في كل يوم يدعو عليه وعلى أعوانه، وأنصاره، والمصفقين له، والمتفرجين على فعلته.. ثم لا يحركون ساكناً، ولا يغيثون مستغيثاً، ولا يفكون أسيراً، ولا يؤون طريداً، ولا ينصرون مظلوماً أو يدعون على ظالم!!
(اللهم احصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحداً)...
إن هذه الدعوة التي دعا بها خبيب رضي الله عنه - على كل من حظر مشهد قتله ولو متفرجاً - يدعوا بها كل يومٍ كل المظلومين، وكل المضطهدين، وكل المعذبين، وكل المأسورين، وكل المغربين..
يدعون بها على كل الطغاة والمصفقين لهم.. والمجرمين والمؤيدين لهم.. والظلمة وأعوانهم.. والجلادين والمتفرجين عليهم.. يدعون بها على ظالمهم ومعذبهم ومضطهدهم وآسرهم ومغربهم {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
إن هذا المشهد يتكرر كل يوم ومنذ عشرات السنين، وطوابير المتفرجين، وجماهير المصفقين تروح وتغدوا وكأن شيئاً لم يكن!! وكأن الأمر لا يعنيهم!! فلا تصيبهم غشية سعيد، ولا يخيفهم دعاء خبيب!! بل ولا يعضّهم الندم لتخاذلهم عن نصرة المستضعفين من إخوانهم.
إن قطاعاً كبيراً من هؤلاء المتفرجين وأشباههم، قد ألغوا من حسابهم تحذير النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ما من امرئ يخذل امرأ مسلما في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله في موطن يحب فيه نصرته، وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته...) [أبوداود].
وقطاعاً آخراً لا يقل عنهم في كثرته، لم يخشوا ما خشاه من مات والنبي صلى الله عليه وسلم عنه راض حين يقول: (فكلما ذكرت ذلك المشهد الذي رأيته - وأنا يومئذ من المشركين - وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أن الله لايغفر لي، وأصابتني تلك الغشية).
ومن بين هؤلاء وهؤلاء من شارك في الجريمة وأصل لها وبررها ودافع عن مرتكبها متناسياً - لا ناسياً - قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أعان على قتل مؤمن بشطر كلمة لقي الله عز وجل مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله) [ابن ماجه].
ومتغافلين قوله صلى الله عليه وسلم: (الظلم ظلمات يوم القيامة) [مسلم].
وقوله لمعاذ: (اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حجاب) [البخاري].
* * *
حقيقة الإنتصار...
إن هذه القضية هي قضية الصراع الأزلي بين الحق والباطل.. بين الخير والشر.. بين العدل والظلم.. بين مايريد الله تعالى من عباده أن يقوموا به ويترحكوا من أجله، ويصبروا على لأوائه،.. وبين الباطل وأهله.. والزيف وشيعته.. والبغي وزمرته.. والنفاق وأنصاره.
إنها القضية المصيرية والتي لابد أن تنتهي بانتصار الحق وأهله ولن يبقى الحال على ماهو عليه..
"فهذا نوح عليه السلام يضرب حتى يغشى عليه ثم بعد قليل ينجو في السفينة ويهلك أعداؤه.. وهذا الخليل عليه السلام يلقى في النار ثم بعد قليل يخرج إلى السلامة.. وهذا الذبيح يضطجع مستسلماً ثم يسلم ويبقى المدح.. وهذا يعقوب عليه السلام يذهب بصره بالفراق ثم يعود بالوصول".. وهذا المصطفى صلى الله عليه وسلم يؤذى كل الإيذاء ويتهم بشتى التهم ثم يدخل الناس في دين الله أفواجاً.
إن الفطن الأريب هو الذي يفهم مع أي الفريقين يكون، وإلى أي الفسطاطين ينظم، وتحت أي لواء يسير.. والموفق فقط هو الذي ينجو من تهمة: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ...}.
ويفوز بجائزة: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُوا ْوَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
إن ما يحدث اليوم على هذه الأرض من ظلم للمؤمنين، واستهانة بالموحدين، وقعود عن نصرة المستضعفين، إنما هو طرف من قضية لم تكتمل فصولها ولم يحكم في حيثياتها، إذ الحكم في الطرف الآخَر في اليوم الآخِر، عندما نقف جميعاً بين يدي الله عزوجل في موقف مختلف، وطبيعة مختلفة، ونتائج كذلك مختلفة.
عندها سينتصر الله لـ "خبيب" ويقول له اقتص ممن ظلمك، وخذ حقك ممن خذلك، واضحك ممن ضحك منك {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}.
وفي المقابل نرى صورة ملؤها الخزي والعار، والذل والصغار، والندم في وقت لا ينفع فيه الندم، ولا يجدي معه الأسف {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا...}.
فإلى كل المظلومين نزف بشارة الرؤف الرحيم: (من يرد الله به خيرا يصب منه) [مالك].
وبشارته عليه الصلاة والسلام: (يؤتى بأشد الناس كان بلاء في الدنيا من أهل الجنة فيقول: اصبغوه صبغة في الجنة فيصبغونه فيها صبغة فيقول الله عز وجل: يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط أو شيئا تكرهه فيقول: لا وعزتك ما رأيت شيئا أكرهه قط..) [أحمد].
وعن مصعب بن سعد: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً؟ قال: (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة) [الترمذي].
وإلى كل الظالمين نقول ونحن واثقين: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}.
وإلى كل المتفرجين نصيح بهم قائلين: إن الواجب يلاحقكم، والمسئولية تطاردكم، فأنتم تنظرون كل يوم بأعينكم، وتسمعون بآذانكم وتحسون بقلوبكم ومشاعركم نداءات إخوانكم وصرخات أخواتكم واستغاثات أطفالكم!!
فماذا أنتم فاعلين؟؟
فإن لم تستطيعوا نصرة خبيبٍ.. إذاً فأدركوا غشية سعيد...
Powered by vBulletin® Version 4.1.11 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved